قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 17, 2014

الافتراس - 1



أمسى التحرش لفظة واهية مهذبة جدًا للتعبير عن هذا الكابوس. أعتقد أن (الافتراس) هو أدق لفظة ممكنة. لم تكن صور اغتصاب التحرير جديدة على، فقد رأيت فيلمًا أقل وضوحًا لاغتصاب الصحفية الاسترالية سارة لوجان ليلة تنحى مبارك.. وقتها قرأت الخبر فى مواقع غربية، فسخرت منهم ونفيته جملة وتفصيلاً، لأننى لا أتخيل أن يتم هذا فى مكان فيه مليون شخص تقريبًا. قلت لهم إن سارة كاذبة غالبًا وهذه مؤامرة لتشويه الشعب المصرى. مر الزمن وبعد 3 سنوات ظهر الفيلم القصير الذى لا يدع مجالاً للشك، فعرفت أننى كنت ساذجًا. بعد هذا انهالت القصص عن فتيات ومراسلات أجنبيات، ورأينا كيف يتم التحرش بمراسلة مصرية أثناء تقديم تقريرها، مراسلة أخرى تحرشوا بها لدرجة أنها استدارت وشتمتهم (يا ولاد الوسـ...) على الهواء. هناك قوم بذلوا ما يستطيعون كى يشوهوا ميدان التحرير للأبد، وحتى يفقد أى ارتباط له بالصمود وإرادة الشعوب.. لفظة تحرير سوف ترتبط للأبد بصورة أنثى عارية مليئة بالكدمات والحروق، ترغم على المشي وهى فى حالة صدمة عصبية كاملة، بينما ابن كلب ما يتلذذ بتصويرها بالموبايل بنفس منطق من يصور جاموسة أثناء ذبحها. يتمهل عند عريها ويستعرضه. هل ستقدر على الحياة ثانية؟... كيف؟ لقد تم ذبحها هناك وما بقى منها هو جثة تمشى. قرأت فى موقع غربى ودمى يغلي: «المصريون يعبرون عن فرحتهم أو غضبهم دائمًا بتعرية النساء».

الفيلم الأخير صادم فعلاً بما يظهره من رغبة مقصودة فى إهانة الأنثى والحط من كرامتها. قد أفهم الاغتصاب فى مناخ مليء بالمغريات ولا يسمح بالزواج المبكر.. إلخ.. هو جريمة لكن أسبابها مفهومة، أما ما لن أفهمه أبدًا فهو هذا التوحش والسادية كأنها رغبة شديدة فى الانتقام. ما كل هذا الغل؟. كأنه يوسع الدجاجة ضربًا لسبب مجهول قبل أن يلتهمها. أنت تعرف الميزوجينية أو كراهية الأنثى، لكن الأمر هنا ذكرنى بصور قديمة لإهانة و(تجريس) الفرنسيات المتعاونات مع النازيين بعد هزيمة هتلر فى الحرب العالمية الثانية، حيث كن يرغمن على السباق عاريات أمام الجموع بعد حلق رءوسهن (لم يتم اغتصاب واحدة منهن). لكن ماذا فعلته هذه السيدة أصلاً؟.. ماذا فعلته كل الفتيات اللاتى تم تدميرهن فى تلك الليلة؟ تواجدن فى الحياة فقط....

خواطر كثيرة تتدافع لذهنك عندما ترى هذا المشهد القاسى الصادم، فأنا لا أتخيل أن يتم اختراق نطاق هيبة الأنوثة ووقارها المحيطين بالمرأة، وهى هالة لا تقل عن عشرين سنتيمترًا تحيط بها حتى فى الحافلة والمترو والمظاهرات، وممنوع تجاوزها لأى شخص يملك ذرة آدمية. ثم مشهد هؤلاء الذئاب الذين يريد كل واحد لمسة أو قضمة.. هناك فيلم آخر فى نفس الليلة لفتاة يتم جرها جرًا لنفق المترو وهى تصرخ، ثم ترى الذئاب تتكأكأ عليها كأنها إحدى حلقات ناشونال جيوجرافيكس فى محمية طبيعية. لقد شموا رائحة اللحم ولم تعد قوة قادرة على منعهم. وأراهنك على أن معظم هؤلاء يضعون على موبايلاتهم دعاء التهجد أو أغنية (بشرة خير) كجرس.

عن نفسى لا أعتقد أن هذه الذئاب تضم بينها المحاسب فلان أو المحامى فلان أو المهندس فلان أو الطبيب فلان.. (لا تحدثنى عن المحاسب الذى قبضوا عليه فى حادثة فتاة العتبة فقد برأته المحكمة، طبعًا بعد ما جرسوه فى كل الصحف وظهر على غلاف مجلة شهيرة بالسروال الداخلي). الذين فعلوا هذا بلطجية.. بلطجية ممن صنعهم المجتمع وصنعتهم الحكومة ليخوضوا معاركها، وبالتأكيد هم تعاطوا جرعات هائلة من البرشام والمخدرات وزعها المتعهد عليهم قبل هذا...

هل تذكر قيام الأمن بتمزيق ثياب الصحفيات يوم الأربعاء الدامى الموافق 25 مايو عام 2005؟ يجب أن نتذكر أن الداخلية المصرية هى التى ابتكرت فن تعرية النساء فى الشارع فى المظاهرات، وكذلك المسجلات الخطرات اللاتى كن –بأمر الشرطة– يعرين الناشطات السياسيات و(يحشوهن) بالشطة. لمح الساخر الجميل بلال فضل لهذا تلميحًا فى فيلم (خالتى فرنسا). لقد زرعت الداخلية العنف فى المجتمع وهاهو ذا يلتهم الجميع.

انهالت التفسيرات والحلول، وكالعادة دعا الكل لتضافر الجهود.. تربوية ودينية وأمنية وبيتية لحل المشكلة. هكذا عرفت أنها لن تحل!... أتمنى قبل أن أموت أن أرى مشكلة واحدة فى حياتنا لا تحتاج لتضافر.. التضافر هو نوع من تفريق الدم بين القبائل إلى أن تحدث الواقعة التالية التى تحتاج لتضافر!!..

فى المقال القادم أستكمل الحديث عن هذه الظاهرة، لكنى اليوم أفضل أن أبدأ بتحليل لفنان الكاريكاتور د.شريف عرفة، وهو طبيب أسنان مهتم بعلم النفس والتنمية البشرية بشكل خاص، وأشهد أنه جاهد كى يحول هذا الشيء المبهم إلى علم محترم، وقد كتب يقول عن المشهد الذى رآه:
«هذه ظاهرة تدعى deindividualization (فقدان الفردية – الذوبان فى الجموع).. الشخص يذوب وسط الجموع الشبيهة به ويمارس العنف الموجه ببساطة جدًا، لأن المسؤولية تتوزع على العدد الكبير..مثل العنف فى المدرجات والمظاهرات».

كلام شريف صحيح فى مصر.. كل حوادث التحرش جاءت من جموع، وذكرى تحرشات العيد أيام مبارك لم تزل من الذاكرة بعد.

يقول شريف: «عنف الحشود ظاهرة معروفة وواردة فى كل حتة فيها حشود منفعلة.. لكن الطابع الجنسى للموضوع مايظهرش إلا فى البلاد اللى فيها تشوه نفسى..»

يرى شريف حقيقة صادمة هى أن الناس غير متساويين نفسيًا... بعض الناس أقرب للحيوانات نفسيا وغيرهم أكثر رقيًا... هذا يتصادم طبعًا مع أشياء كثيرة لكنه مؤمن بهذا ويحاول إثباته فى رسالة ماجستير..

فى المقال القادم أنشر تحليلاً مطولاً كتبه د. شريف عن ظاهرة العنف الجنسى، وأشياء أخرى.